الفصل الخامس: من شمال إفريقيا إلى غرب أوروبا
عندما عرف مصطفى أن ورود لم توافق فورا على استعجاله في الزواج، وطلبت وقتا للتفكير لم يعجبه الأمر، وبدأ يفكر في طريقة تجعلها تطمئن وتوافق، جلس على كرسي في شرفة منزله يفكر وبيده فنجان قهوة يحتسيه بطريقة توحي بمتعة مع كل رشفة. بعد أن انتهى من قهوته نادى أمه وقال لها، "أخبري خالتي أم ورود أنني أريد اصطحاب ابنتها في نزهة يوم الجمعة مع صديقي عمار وزوجته مريم، أنت تعرفينهما"، فردت الأم"نعم يا أبني إنه خير صديق وزوجته من خيرة النساء".
وافقت العائلة فور معرفتهم بهذه النزهة التي ستكون فيها ورود مع خطيبها مع ثنائي آخر معروف لديهم، وجلست ورود تفكر فيما قد ترتديه في هذه المناسبة وهل يجب أن تقتني ثيابا جديدة، أو تكتفي بما لديها. جاء يوم الجمعة، ولبست ورود بنطال أسودا ومعطفا بنيا، بينما كانت حقيبة يدها إحدى الحقائب التي أهداها إياها عريسها، أما الحذاء فقد كان لأمها، اقتنته في أحد الأعياد، ولم يتسن لها أن تلبسه، بدت ورود أنيقة كعادتها، وهذا الذي لاحظه مصطفى فور رؤيته لها حيث نظر إليها قائلا "أمي دائما تخبرني كم أنت أنيقة وجميلة، وها أنا أرى ذلك جليا في كل مرة أقابلك فيها"، ابتسمت ورود والخجل يزين خديها، وركبت السيارة، بينما كان خطيبها يمسك ببابها، شعرت ورود في هذه اللحظة أنها تنتقل فعليا من كونها طفلة مراهقة إلى سيدة ستتزوج قريبا. كان الطريق إلى المطعم الذي سيلتقيان فيه عمار وزوجته لا يبعد كثيرا عن منطقتهم، إلا أن ورود تمنت لو أنه كان أبعد لتمضي وقتا أكثر، وهي تسمع نكات مصطفى حول أحوال الطريق، وكل ما هو خارج السيارة، كان لأسلوبه في الكلام سحر لم تستطع ورود تفسيره، كانت فقط تصغي وتهز برأسها موافقة على كل ما يقول وتضحك على نكاته في تحفظ؛ لأن والدتها أخبرتها أن الرجل الجزائري لا يحب الفتاة البلهاء، وأن ضحكت بصوت عال فستضع نفسها في خانة البلهاء، لم تستطع ورود الربط بين البلاهة والضحك، إلا أنها قررت أن تسمع كلام والدتها.
وصل مصطفى وخطيبته إلى المطعم، ونزل ليفتح لها الباب وفور نزوله لاحظت ورود أنظار المارة إليه، كان هذا الرجل أنيقًا بطريقة ملفتة وكانت له كاريزما خاصة تلاحظ من بعيد. فتح الباب ونزلت ورود التي لم تر مطعما كهذا في حياتها، صحيح أنه في نفس مدينتها، لكن في تلك المدينة يعيش الناس طوابق حسب الطبقات، ومن كانت طبقته دنيا، فسيكون طابقه كذلك لا يطل على شيء من مناظر الحياة المرفهة التي لا يراها إلا القاطنون في طبقات المجتمع العليا. شعرت ورود بالارتباك الشديد، وزاد ارتباكها لما رأت مصطفى يلوح بيده لرجل وصل لتوه مع سيدة أقل ما يقال عنها أنها بدت كالشمس في ذلك اليوم الغائم الكئيب. كانا يقتربان منها ودقات قلبها تتسارع مع كل خطوة يخطونها، كانت يداها تتعرقان رغم درجات الحرارة المتدنية، شعرت في لحظة أنها تريد الهرب من هذا الموقف، ثم هدأت نفسها، وبدأت تتنفس ببطء حتى لاحظ مصطفى توترها، فقرر أن يتقدم بضع خطوات ليسبقها في السلام على صديق عمره وزوجته الفاتنة وفعلا حضن عمار قائلا:"عاش من شافك يا سيدي" وصافح زوجته مقدما لها ورود قائلا" لقد أحضرت معي خطيبتي اليوم، والتي ستكون حتما صديقة لكي" في هذه اللحظة اقتربت مريم من ورود، وسلمت عليها بحرارة هدأت من روعها، ودخل الجميع المطعم مبتسمين فرحين، وهذا ما جعل ورود تشعر بالكثير من الاطمئنان، كانت مريم جميلة، فاتنة، واثقة من نفسها، إلا أنها تتصرف ببساطة، وفي غير تكلف، فتجعل الجميع مرتاح من حولها، كانت طاقتها الإيجابية تجعل كل من حولها يبتسم، جلس الجميع حول طاولة دائرية محاذاة النافدة، كانت ورود تنظر حولها في استغراب، شعرت وكأنها سافرت خارج البلد؛ لأنها لم تر بفخامة المطعم من قبل وحتى الجالسين حول الطاولات لم يكونوا يشبهون معارفها في شيء، كانوا يرتدون ملابس بدت عليها جودة أقمشتها، بينما كان شعرهم مصفف بطريقة لم تعهدها. طلبوا المقبلات وبدأوا بالحديث حول مواضيع شتى عن مشاكل المناخ والاحتباس الحراري، ثم انتقلوا إلى مواضيع سياسية لم تعرف عنها شيئا. كانت فقط تهز رأسها تارة، وتبتسم تارة أخرى حتى تشعرهم أنها مهتمة بما يقولون، لكنها في الحقيقة كانت تشعر أنها صغيرة على المكان، وتمنت لو أنها كانت أكبر سنا، أكثر خبرة، كانت أول مرة تشعر فيها بمثل هذا النقص. كانت تتأملهم وكلما تكلموا أو تحركوا شعرت أنها صغيرة حجما وقيمة، لم تشعر يوما أنها قصيرة، لكن في ذلك اليوم بالذات تمنت لو أنها كانت أطول قليلا، فلعل طولها قد يغطي على ضعفها وقلة حيلتها وسط هؤلاء القوم الذين بدو شامخون بأزيائهم نسائهم ذات الكعب العالي كأنهم يلامسون السماء.
انتهى الغذاء، دون أن تنبس ورود ببنت شفة, كان يبدو عليها الضيق والإحراج اللذان بديا جليان لمريم التي قررت إنهاء معاناة صديقتها الجديدة، وطلبت من مصطفى أن يصطحبها إلى البيت؛ لأن مريم تذكرت أنه يجب عليها الذهاب إلى بيت والديها لإحضار شيء ما لم تذكره فهي في هذه اللحظة إرادات عذرا سريعا من غير تفاصيل لإنقاذ هذه الفتاة المسكينة التي أرادت المغادرة في أسرع وقت ممكن.وفعلا استجاب مصطفى لطلبها، واصطحب ورود إلى بيتها، وقبل نزولها طبع قبلة على جبينها، وأخبرها أنها كانت جميلة اليوم، وأنه ينتظر رؤيتها مجددا قريبا جدا. دخلت ورود شقة أهلها الصغيرة، وأوصدت الباب، وفي هذه اللحظة غمرها شعور بالأمان والطمأنينة كأن هذا المكان هو دواء سريع المفعول أنقذها من كل عوارض البؤس التي شعرت بها في ذلك المطعم اللعين. نظرت إلى حيطان البيت التي أكلت الرطوبة دهانها، وابتسمت ثم وقع نظرها على أخويها اللذين كانا يتشاجران حول من يمسك بلوحة التحكم، رغم أن كلاهما يريد مشاهدة نفس الكرتون وبعد دقائق من تأملها في أثاث بيتهم القديم الذي يعود تاريخ شرائه إلى ما قبل ولادتها اتجهت إلى المطبخ وهي تصيح "أمي ماذا طبختي اليوم، إنني أتضور جوعا" هنا ردت عليها الأم "ماذا، ألم يعجبك أكل المطعم الذي ذهبتم إليه" هنا قالت ورود" أي أكل يا أمي، لقد كانت عينات من دون طعم، آتيني بأكلك اللذيذ الذي لا أشبع منه أبدا".
بعد أن فرغت ورود من الأكل وغسل الأواني، جلست تفكر بمشاعر متضاربة، وهي تعرف أن أهلها ووالدة مصطفى، بل ومصطفى نفسه ينتظرون منها جوابا حول الإسراع بالزواج دون حفل زفاف، وكان الغداء الذي حضرته مع صديقه وزوجته بمثابة الفيصل في هذا الأمر حيث إنه رغم ضيقها وشعورها بالنقص وقتها إلا أنها الآن تشعر أنها تريد أن تكون في ذلك المكان مع هؤلاء القوم، وكان مصطفى بمثابة طوق النجاة الذي سينتشلها وأهلها من الفقر وما يحمله معه من ذل.
بدون مقدمات أخبرت ورود والدتها أنها موافقة على الزواج، وفي اليوم التالي أخبرت صديقاتها، وبدأت تجهيز الوثائق، وبعد فترة تم فعلا عقد القران الذي حضره حفنة من أهل العروس ولا أحد من أهل العريس غير والدته. لم ترد ورود الذهاب إلى بيت عريسها، والذي توجدة فيه والدته، وفضلت أنهما يجتمعان بعد أن يسافرا معا، ويكونان هناك في فرنسا في شقتهما الباريسية التي ستكون عش الزوجية، لم يبد مصطفى أي اعتراض على ذلك، بل رحب بالموضوع، وقال لورود أن الأيام القليلة المقبلة ستقضيها مع أهلها كي تودعهم قبل سفرها المرتقب بعد أسبوع.
جاء يوم السفر، وكان على ورود وزوجها الوصول إلى المطار ساعتين قبل موعد الطائرة، وفي طريقهما كان كل منها في سيارة، مصطفى مع والدته، وورد مع والديها وأخويها اللذين لم يكفا عن البكاء؛ لأن ورود كانت أختهم الكبرى وأمهم الثانية وهاهي الآن ستتركهم وتذهب بعيدا تاركة وراءها الكثير من الوحشة للعائلة كلها التي كانت سعيدة بزواج ابنتهم من رجل محترم وكريم وحزينة على فراقها في الوقت نفسه. وصل الجميع إلى مطار العاصمة الدولي، ونزلوا من السيارتين، واتجهوا نحو بوابة الدخول معا. كانت حقائب ورود مع أبيها، بينما كان مصطفى يحمل حقيبة يد واحدة، فالتفت إلى الأب، وطلب أن يساعده، بينما كانت ورود تمشي وسط والدتها وحماتها وأخويها وراءها يمسحان دموعهما. كانت المرة الأولى التي تدخل فيها عائلة ورود إلى المطار فهم لم يسافروا يوما، ولم يستقبلوا أحدًا هناك من قبل. كان جواز سفر ورود مع زوجها الذي قام بكل الإجراءات، وسلم الأمتعة ثم رجع الزوجان ومعهما تذاكر الطيران كي يودعا الأهل وهنا انفجرت ورود بالبكاء، وأحست كأن شيئا يقتلع قلبها من مكانه، لم تستطع تمالك نفسها رغم محاولة الكل تهدئتها، أخذت تقبل يدي أبيها وأمها، وتحتضن أخويها وتبكي بحرقة شديدة كأنها يومها أحست أنها لن ترهم قريبا، وسيطول بعدها عنهم. بعد دقائق من النحيب المستمر نجحت والدتها في تهدئتها حيث كان الأب يخفي دموعه بمنديله والأخوين ممسكين بقدميها ويقولان لها "لا تذهبي يا أختي، لا تتركينا".
بعد محاولات نجح مصطفى في انتزاع ورود من قبضتي أخويها مطمئنا لهما بقوله إنها ستأتي قريبا جدا.
كانت ورود تبتعد خطوة خطوة ملوحة بيد تودع أهلها، بينما تمسح اليد الأخرى الدموع التي أبت أن تتوقف، وبعد فحص الوثائق ثم التفتيش وجد الزوجان نفسها في قاعة انتظار ركوب الطائرة وهنا عرض مصطفى على زوجته أن يشربا فنجان قهوة قبل صعودها إلى الطائرة، وكان الغرض من ذلك تهدئة زوجته التي كان صوتها يرتجف من حزنها على فراق أهلها فهي لأول مرة في حياتها تبيت بعيدا عنهم، وليس في بيت آخر أو مدينة أخرى، بل في بلد آخر وقارة أخرى. جاء موعد الركوب، وصعد الثنائي حديث الزواج إلى الطائرة، وجلست ورود بجانب النافذة حيث حلمت دائما أن تجلس، وها هو الحلم يتحقق أسرع مما توقعت، وبعد ساعتين ونصف حطت بهما الطائرة في مطار شارل ديغول الدولي وهنا تكون ورود قد انتقلت فعليا من شمال إفريقيا إلى غرب أوروبا لتبدأ حياة جديدة.
يتبع...
🫶🫶👏👏👏
👏👏🫶
في كتير من التشويق و الفضول للجزء القدم