top of page
Search

الوهم

Updated: Jun 14

لم يكن حبًّا… لم يكن سوى وهمٍ مُتقن الصنع.


حين دخل أمير حياتها، دخل كإعصار هادئ. كان مختلفًا عن كل من عرفتهم. نرجسيته لم تكن واضحة منذ البداية، بل كانت مغلّفة بسحرٍ قاتل. أخبرها منذ اللحظة الأولى أنه مأخوذ بها، خطفته بجمالها، بروحها، بشيءٍ لا يستطيع تفسيره. راح يُغرقها بكلماته المعسولة حتى لم تعد ترى غيره. يومًا بعد يوم، بدأت تُحب الأغاني الرومانسية التي لم تطقها يومًا، وبدأت تشعر بشيء جديد يتسلّل إلى قلبها، سعادة غامرة لم تعرفها من قبل، لم تلبث كثيرًا حتى أدركت أنه هو الحُب… وأنها تحب أخيرًا.


لم يكن الأمر مجرد كلمات. أمير كان يعرف تمامًا كيف يجعلها تشعر أنها الأهم، أنها الوحيدة التي تستحق هذا الحب الكبير. كان كريمًا لا يبخل بالهدايا الجميلة، ولا بالمفاجآت التي رسمت البسمة على شفتيها، يهتم بأبسط تفاصيلها: ماذا تُحب، ماذا تكره، كيف كان يومها، كيف تشعر. كان حاضرًا دائمًا، يسبقها بخطوة في إظهار مشاعره، حتى اعتقدت أنه الرجل الذي لطالما حلمت به.


وهي لم تكن متلقّية فقط، بل كانت تستثمر في هذا الحُب بكل ما تملك. لم تبخل عليه بشيء، لا بالوقت، ولا بالعاطفة. اختارت له الهدايا بعناية وكانت ترجو أن ترسم ابتسامة على وجهه. ربما لم تكن تملك الكثير، لكنها كانت تحلم بأن تجعل كل أيام أمير سعادة، لأنها لم تتخيل يومًا أن هذا الحب قد ينتهي.


لكن كل شيء بدأ يتغيّر…


لاحظت الفتيات اللاتي يتابعهن على مواقع التواصل. وجوهٌ منحوتة، أجسادٌ مصقولة، عيون واسعة وشفاه ممتلئة. بدأت تُقارن نفسها بهن، وبدأت ثقتها تتآكل ببطء. لم يعد أمير يُغرقها بكلماته كما في البداية. صار صوته أكثر جفافًا، وكلماته أكثر قسوة. الغزل اختفى، وحلّ محله الصراخ، والانتقادات حلّت مكان الإعجاب. لم تعد تملك تلك الطاقة التي كانت تشعّ منها، تحوّلت إلى ظل خافت لما كانت عليه.


باتت تبكي كثيرًا، تتوسل إليه ألا يجرحها. لم تعد قادرة على فهم كيف تحوّل حبها الكبير إلى هذا الألم الموجع. أمير الذي كان يقضي ساعات يتحدث معها، صار يتجنب مكالماتها، يُغلق الهاتف متحججًا بالعمل، يعود إلى البيت دون أن يخبرها، متعبًا، باردًا.


لم تُصدق ما يحدث. حاولت التماسك، حاولت أن تعود كما كانت، لكنها لم تعد تعرف كيف. الغضب تسلّل إليها، أصبحت تصرخ، تستعمل كلمات لم تتخيّل يومًا أنها قد تخرج منها. لم تكن هذه هي “حنان” التي تعرفها. كانت في الماضي تترك كل ما يُؤلمها وتمضي، أما مع أمير، فقد أصبحت تُعاتب، تلوم، وتتمسك به رغم يقينها أن الاهتمام لا يُطلب.


وحين واجهها بتغيّرها، لم تدافع عن نفسها، لأنها هي ذاتها لم تعد تُحب ما أصبحت عليه. قالت في سرّها: “إن كنتُ أنا قد كرهتني، فلا لوم على أمير إن لم يعد يحبني.”


وصلت إلى القاع سريعًا. لم تعد تتحكم في أفكارها أو انفعالاتها. صار الموت فكرةً مألوفة، خيارًا يطرق بابها كل ليلة. لكنها لم تفعلها… لأن هناك من تُحبها بصدق، من تستحق الحياة من أجلها. طيف أمّها كان دائمًا حاضرًا، يمدّ يدًا غير مرئية لتنتشلها في اللحظة الأخيرة.


لم تكن هذه نهاية حنان، لكنها كانت نقطة الانكسار التي سبقت التحوّل.


هي تُدرك أن في العلاقات لا يوجد ظالم ومظلوم. من قرر المغادرة، فهذا من حقه. تعرف أنه من حق أمير أن يرفض النسخة الجديدة منها، رغم أن حبها له كان السبب في هذا التحول المخيف. لكنه لم يطلب منها أن تُحبّه بطريقة معيّنة. هي من أخطأت التقدير، وأسأت التصرف في مواقف كثيرة كانت تعرف جيدًا كيف تتصرف فيها، لكنها فعلت العكس، لأن عواطف سلبية كانت تتحكم بها. تلك العواطف كانت الغيرة، والشعور بالنقص، وقلة الثقة، والوحدة، وغياب السند.


لم يكن لها صديقة تُواسيها، ولا أهل يُحضنونها. كانت تمضي معظم أوقاتها وحيدة، تفكر في خيبتها وألمها.


أدركت سوء تقديرها للأمور، وقررت سريعًا العودة لما كانت عليه قبل هذا الإعصار الذي عصف بحياتها وقلبها رأسًا على عقب. قررت احترام قرار أمير بالابتعاد. لم تعد تُراقبه، لم يعد يعنيها. مسحت كل رسائلهم وصورهم، وصار غريبًا كما كان. عادت لعاداتها القديمة التي لم تكن تعوزها لأحد. شيئًا فشيئًا، استعادت ثقتها بنفسها، ولم تعد تستيقظ بتلك المرارة والألم اللذين رافقاها لعدة شهور.


كانت تظن أنها شُفيت، لكنها انتكست مرة أخرى، لأنها صارت تفكر: كيف تحوّلت الرغبة إلى نفور، والود إلى جفاء؟ وانتهت بذلك قصة الحب التي بدأت منذ أشهر فقط. هنا توقفت قليلاً وسألت نفسها:

هل كان حبًا فعلًا؟ أي حب هذا الذي يولد ويموت في بضع أشهر؟


ثم أدركت أنها لم تكن حبًا، بل rebound… علاقة تعويضية.


العلاقة التعويضية (بالإنجليزية: Rebound Relationship) هي علاقة عاطفية تبدأ بشكل سريع بعد انتهاء علاقة سابقة، وغالبًا ما يكون الهدف منها التخلص من ألم الانفصال أو الشعور بالوحدة. هذه العلاقات في الغالب غير صحية وغير مستدامة، لأنها تقوم على ملء فراغ خلفته علاقة سابقة، وليس على بناء جديد ناضج ومستقل.

كانت وسيلة لتفريغ الغضب، مثلها مثل كيس ملاكمة. كانت تدفع ثمن أخطاء لم ترتكبها. كان قلبها يُكسر مرارًا وتكرارًا بكلام ومقارنات جعلت من روحها جراحًا تنزف كل يوم. انطفأ جمالها، وضاعت ابتسامتها، ولم تعد تفكر في شيء سوى وضع نهاية لهذا الألم.


لم تكن قوية كفاية كي تُقاوم. عاشت حياة مليئة بالاستغلال، لأنها لم تعرف يومًا حبًا غير مشروط، حتى من والديها، اللذين ربطا حبهما وتقديرهما لها بعلاماتها وتفوقها وعدد اللغات التي تجيدها. كبرت وهي تظن أن الحصول على الحب يتطلب الكثير من الجهد والتضحيات. كانت تظن أن القبول سيأتيها فقط إن كانت الأذكى، الأجمل، الأكثر أناقة. اعتقدت أنها تستطيع التعبير عن حبها بالهدايا الثمينة.


صارت جثة هامدة تثقلها الجروح، ولم تستطع تحمّل ثقل الذنب والعار اللذين يُلاحقانها لأنها، لمرة أخرى، تم استغلال سذاجتها.


كانت تُعاني في صمت… إلى أن جاء اليوم الذي لم تعد فيه روحها الهشّة تحتمل الألم المتراكم، وقررت أن تُنهي حياتها، تاركة خلفها كل آلامها وأحزانها، وكل من أخذ منها جزءًا من روحها دون رحمة، لتأخذ ما تبقى… وترحل.


نعم، رحلت صباح يوم الجمعة، بعد أن خططت بعناية، وعرفت ما قد يُنهي عذابها دون رجعة. رحلت عن هذا العالم الذي رأته سيئًا، ولم تُعطِ فرصة للشمس كي تشرق من جديد.


كيف لها أن تستسلم وهي التي قاومت لسنين؟ كيف لشخص واحد أن يُجهز على ما تبقى منها؟ وكيف لنا أن نُعيدها لنُخبرها أنها كانت ستنجو… وأنه حقًا بعد كل ظلام، تشرق شمس يوم جديد؟


يا ليتها بقيت معنا…


يا ليتها بقيت لتدرك أن ما مرّت به كان مؤقتًا، وأن الألم، مهما طال، لا يدوم. يا ليتها علمت أنها كانت ستجد يومًا الحبّ غير المشروط، ذاك الذي لا يُقايض بالنجاح ولا الجمال ولا الكمال. ويا ليتها فهمت أن والديها، رغم قسوتهما أحيانًا، كانا يطمحان لنجاحها، لا لأن حبهم مشروط، بل لأنهم لم يعرفوا طريقة أخرى ليُظهروا به فخرهم بها. لو أنها عرفت أن فشلها لم يكن ليلغي مكانتها في قلوبهم.


حنان كانت تُعاني من الاكتئاب… ذلك الوحش الصامت الذي يحجب عنا رؤية الجانب المشرق من الحياة. الاكتئاب لم يجعلها ترى نور الحبّ ولا دفء الأصدقاء، فقط الظلّ، فقط الخوف، فقط الألم.


ولهذا، لا يجب أن نغفل عن هؤلاء الذين يحيطون بنا، فقد يكون الاكتئاب ينهش أرواحهم بصمت، دون أن ننتبه. يجب أن نُصغي، أن نرى ما وراء الكلمات، أن ننتبه للتغيّرات، أن نُبادر بالسؤال.


ويجب على من يُعاني… أن يعرف أن طلب المساعدة ليس ضعفًا، بل نجاة. أن اللجوء إلى مختصّ نفسي لا يُقلل من قوته، بل يُعيدها إليه.


قبل أن نفكّر في أشياء لا عودة منها، لنتذكر دائمًا أن الحلّ قد يكون على بُعد جلسة، على بُعد كلمة، على بُعد حضن...


النهاية



 
 
 

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
Post: Blog2_Post

Dubai

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
bottom of page