الفصل الرابع: شقة القبو٢
في اليوم التالي للخطوبة استيقظ أهل البيت على آذان الفجر، واتجه الكل لغرفة المعيشة للصلاة، وبعدها للمطبخ لاحتساء القهوة معا، وجبة الإفطار في الجزائر تكون قهوة وكرواسون أو قطعة من الخبز عند معظم العائلات، وبعد أن احتست قهوتها بالحليب، وأخذت قضمة من قطعة الخبز، دخلت ورود غرفتها لكي تراجع بعض الدروس قبل توجهها لجامعاتها.
نزلت الدرج، وهي تدندن بأغنية قديمة للفنانة سعاد حسني شاهدتها في أحد الأفلام المصرية التي كانت تعرض على الشاشة الصغيرة "ما انتش قد الحب يا قلبي ولا قد حكاياته ليه عايزني من دلوقتي احكيلك حكاياته...." ثم انتبهت أنها لم تفكر يوما في هذه الأغنية، وضحكت ضحكة طفولية، وكانت مشيتها تميل إلى القفز، وبعد خطوات انتبهت وقالت لنفسها "عيب... ماذا يحدث لي"، استقلت الباص وكانت تنتظر بفارغ الصبر إخبار زميلاتها بهذا الخبر التاريخي الذي جرت العادة أن يسمعوه من طالبات الصف الرابع اللائي اقترب موعد تخرجهن، أما طالبات الصف الأول، فمن النادر أن يخطبن أو يأخذن قرار الزواج بحكم السن والحالة الاجتماعية لمن يمكن أن يرتبط بهن. دخلت الصف ومن حسن حظها أن المدرس لم يحضر بعد، فكان لها متسع من الوقت لكي تزف هذا الخبر الذي ظنته سارا، لكن ردة فعل زميلاتها كانت غير متوقعة، من قبلها على الأقل. واجه الكل الخبر بدهشة شديدة لمعرفتهم السابقة بها ولمعرفة ظروف العريس الذي رأى الجميع أنه يكبرها ب ٢٥ سنة، اقتربت إحدى زميلاتها منها، وأمسكت يدها قائلة" هل أنتي متأكدة مما تقولينه، هل تعرفين إذا كان متزوجاً أم لا؟ كيف لرجل في سنه وبمواصفاته أن يكون أعزبا إلى الآن، فكري عزيزتي ماليا بالموضوع، الزواج ليس لعبة... اممممم على العموم مبروك، الله يجيب اللي فيه الخير"
بينما هي جالسة تستحضر ذكريات الماضي، دق باب الغرفة، وأعادها صوته إلى الحاضر، فقالت بصوت مرتعش "تفضلي، ادخلي، ثم تذكرت أنها أوصدت الباب من الداخل، فقامت لتفتحه وهي تمسح دموعها وكان الطارق، جارتها القاطنة بالغرفة المجاورة والتي كانت تعمل كممرضة في أحد المستشفيات القريبات من حين. استأذنت ثم دخلت وأقفلت الباب، وأخبرت ورود أنها واقعة في ورطة وتأمل من ورود أن تساعدها؛ لأن خطيبها المقيم في البلد بصفة غير شرعية قد قبض عليه وهو يحاول فتح سيارة عنوة لأخذ اللابتوب الذي لاحظه فور مروره بجانبها وهنا شعرت ورود بضيق شديد وكأنها تريد أن تصرخ في وجه جارتها "ما الذي تفعلينه مع هذا الفاشل..." لكنها تمالكت أعصابها، وأخبرتها أنها تعاني هي الأخرى من ضائقة مالية بعد أن أرسلت معظم راتبها إلى عائلتها في الجزائر وبسماع هذا شكرتها الجارة، واتجهت نحو الباب، وهي تجر أذيال الخيبة. وهنا كانت ورود تنظر إليها وهي تفكر " هل يمكن أن يكون الحب بهذا الغباء، كيف لهذه المسكينة أن تحب شابا يمتهن السرقة ليلا والجلوس على قارعة الطريق نهارا، ثم سرعان ما تذكرت كيف أنها كانت تشعر بشيء مشابه اتجاه مصطفى وبضحكة ساخرة قالت لنفسها "ضحكت المذبوحة على المسلوخة...".
أوصدت الباب مجددا، ولكنها لم تنجح في العودة إلى الماضي؛ لأن جارتها قطعت حبل ذكرياتها، فقررت الخروج من الغرفة، واتجهت نحو المطبخ لتجد الأخت صفاء العربية الوحيدة في جاراتها جالسة تأكل من صحن كبير مليء بالخضراوات وقطعة لحم، وقامت الأخرى بدعوتها كي تشاركها قائلة "أنت محظوظة اليوم، طبخت كسكسي باللحم، تعالي لنتشاركه واحكيلي عن يومك"
لم تكن ورود جائعة، إلا أن رائحة الكسكسي التي لا تقاوم جعلتها تأكل كم ملعقة على عجل، وهي تخبر صفاء عن الطفلة التي كادت أن توسخ فستانا باهض الثمن وكيف أنها أنقذت الموقف، ثم سألت بدورها صفاء عن يومها وكيف كان طلابها الذين كانت تعطيهم دروساً خصوصية في اللغة العربية؛ لأن الكثير من الآباء لا يريدون أن تنقطع علاقة أولادهم بهويتهم العربية رغم الغربة، فهزت رأسها وقالت "لا بأس كان يوما لا بأس به". إذن الأختين والممرضة غادرتا لعملهما الليلي وصفاء تتناول وجبة العشاء، ولم يبق في الشقة غيرهما والجارتان المقيمتان في الغرفة المجاورة لغرفة ورود وهذين بالذات لا يغادران قبل منتصف الليل لامتهانهما الرقص في أحد الأماكن الخاصة بهذا النوع من الترفيه.
بعد أخذها استراحة وجيزة من الذكريات رجعت صديقتنا إلى غرفتها، وقررت الرجوع إلى اليوم الذي تلا خطبتها وكيف أنها تجاهلت كلام صديقتها. انتهى يومها الدراسي، وغادرت جامعتها يومها وقلبها يرقص فرحا لما ينتظرها في الضفة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط. وصلت بيتها لتتفاجأ بوالدة مصطفى جالسة في غرفة المعيشة، وفي يدها قطعة مقروط، بينما يدها الأخرى ترفع فنجان القهوة بكل أناقة بيدها البيضاء التي يزينها خاتم ذهبي يعلوه حجر كريم ذو لون أزرق لم تكن ورود تعرف هذا النوع من الأحجار حينها، إلا أنها أعجبت كثيرا، وتمنت لو أن خاتم خطبتها كان بهذا الجمال. نادت لالة فاطمة ورود، وأجلستها بجانبها لتسألها عن يومها بكل لطف، كان لكلمات هذه المرأة ونبرة صوتها وقع سحري على أذن من يسمعها. لمحت ورود بجانب حماتها كيسا ورقيا كبير لم تر مثله في واقعها من قبل. ذلك النوع الذي يتفاخر به المؤثرات على صفحاتهن، إلا أنها لم تعرف ما بداخله، وهو ما أجج الفضول في داخلها لتعرف إذا كان لها، وجاءت اللحظة المنتظرة التي سلمت فيها لالة فاطمة الكيس لكنتها المستقبلية، وأخبرتها أنها هدية من مصطفى الذي تعذر عليه المجيء اليوم لانشغاله ببعض الأعمال. استلمت ورود الكيس بوجه اعتلاه الخجل، وبعد دقائق غادرت الضيفة لتفتح وورود ووالدتها الكيس بسرعة لإرضاء فضولهما وكما توقعتا من حجمه، كان في الكيس أكثر من هدية. احتضنت ورود ذات الثمانية عشر ربيعا الحقيبة والعطور، وكانت تستنشق الهدايا كم تستنشق أم طفلها حديث الولادة. قالت الأم لابنتها مازحة حلال عليك الحقيبة، لكنني أريد زجاجة عطر فاخرة فأنا لم أر هذه العطور مند تزوجت والدك "وردت الابنة غير مازحة" خديها كلها يا أمي، لا يغلي عليك شيء" أخذت ورود الحقيبة وزجاجتي عطر معها إلى الغرفة التي تشاركها مع أخويها الصغيرين تاركة علبتين على الطاولة لوالدتها. طلبت الوالدة من ابنتها العود بسرعة؛ لأنها تريد إخبارها بشيء مهم، وأجابت ورود بأنها ستغير ملابسها، وتصلي العصر وتعود فورا، وكان ذلك فعلا، ففور فراغها من ركعتها الأخيرة هرعت ورود إلى غرفة المعيشة، وهي تصيح "أمي، ها أنا هنا أخبريني". مسحت الأم على شعر ابنتها البني الناعم، وأخبرتها أن مصطفى ووالدته يريدون لعقد القران أن يتم بسرعة لكي يباشروا في إعداد أوراق السفر والتقديم على الجامعة في باريس وما يتطلبه الأمر من إجراءات قد تطول... سكتت الأم قليلا، ثم قالت"عزيزتي لن يكون هناك زفاف؛ لأن عريسك لا يحب هذه الأشياء، سنكتفي بعشاء عائلي يحضره بعض الأقارب وحبذا ألا تخبري صديقاتك فهن سيحسدنك، وربما يقلن كلاماً غير لائق عن زوجك. هنا صمتت ورود قليلا، ولم تجرؤ على الكلام. شعرت بضيق شديد في صدرها وكأن شيئا ما يخنقها ثم استعادت أنفاسها، وقالت"أمي لماذا العجلة، لقد رأيت هذا الشخص البارحة فقط، ولم يتسنى لي معرفته....أمي، لا أعرف ماذا أقول، أمهليني بعض الوقت كي أفكر في الموضوع"...
يتبع...
المقروط : من الحلويات الجزائرية التقليدية
متشوقين للقادم
اللي بعدو... 😅
إبداع كالعادة في انتظار الجزء المقبل..