في صباح يوم أربعاء ربيعي قرر سليم النهوض باكرا على غير عادته وتوجه مباشرة إلى عمله دون حتى أن يدخن سيجارته الصباحية ولكنه لم يفرط في كوب القهوة الذي لن يفارق يده لبقية يومه.
صادف الكثير من جيرانه في طريقة إلى المكتب لكن لم يسلم عليه أحد لأن سليم لم يكن محبوبا لأن الأهالي كانوا يرونه مثالا للكسل والفشل معا، هذا الشاب الثلاثيني الذي يمضي معظم وقته بين أحضان سريره بينما يذهب وقت يقظته بين التدخين وارتشاف أكواب القهوة الواحد تلو الآخر ورغم كمية الكافيين التي تدخل جسمه يبقى هذا الأخير يتوق إلى النوم ربما لعله ما فيه أو هو هروب من واقع أليم لم يعد سليم قادرا على التعايش معه فأصبح يفضل أزقة الأحلام بدل تفاصيل شوارع واقعه في حيه القديم.
كان متعلم خريج حقوق إلا أن السبع سنوات التي أمضاها في الجامعة بدل الأربع بسبب رسوبه المتكرر جعلت من شهادته التي لم تعلق حتى على الحائط دون قيمة حيث اكتفت والدته بوضعها مع أوراق أخرى غير مهمة في أحدى الأدراج وتركتها للغبار والعتمة. لم يكن لسليم لا أب ولا إخوة وكان يعيش مع والدته ورغم أنها حاولت مرارا وتكرارا أن تجهل منه طالبا ناجحا سواء بالنصح أو بدفع مبالغ تفوق دخلها الشهري في دروس خصوصية إلا أن وحيدها لم يكن يحب الدراسة وأخذ شهادته بشق بالأنفس.
كان سليم هزيلا، قصير القامة ذو شعر أسود كثيف وحاجبين متصلين، كانت بقية ملامحه عادية جدا ولم يميزه عن غيره إلا لون عينيه البني المائل إلى الخضرة وبشرته الحنطية، كانت أسنانه مصطفة اصطفافا جميلا غير أن أثر التبغ والقهوة كان واضحا على لونها. كان يميل إلى البساطة في لبسه ولم يكن من محبي الألوان الزاهية أما عن الأحذية فقد كان يحب الرياضية المريحة من ماركة أديداس. رغم بغض رجال الحي لسليم إلا أن معظم الفتيات لم يكن يتفقن مع أهاليهم في رؤيتهم لسليم على أنه شاب فاشل بل وصلت بعضهن إلى حد وصفه بالأمير الوسيم الذي لم يحالفه الحظ في أغلب الأحيان وجارت عليه الدنيا في ما تبقى فهو كان يجيد التلاعب النفسي ويتقن فن الحوار والإقناع إلى حد مثير للإعجاب، كان يعرف ماذا يقول ومتى يقوله وكانت الواحدة من فتيات الحي لا تمر على المكتب إلا وهي واقعة في شباك المحامي المتدرب الذي يكون موجودا فقط خلال الفترة المسائية الذي كان كلما تكلم إلى إحداهن أوهمها بأنها ملكة تتربع على عرش قلبه فيصنع لها من الكلام المعسول قصرا عاجيا مرصعا بالأحجار الكريمة.
لم يكن يملك غير الكلام الذي صار يحفظه ويكرره على مسامع النساء كلما سنحت له الفرصة وفي هذه المرة كانت الضحية المعلمة كوثر التي قصدت مكتب الأستاذ محمد من أجل استشارة قانونية تخص ميراث والدها الذي فارق الحياة على حين غرة تاركا وراءه زوجة وأربع أولاد كانت كوثر أكبرهم، بعد وفاة والدها في حادث أليم أثناء أداء عمله كعامل كهرباء وجدت والدتها نفسها وسط حرب على الميراث مع أعمام أبنائها على قطعة أرض كان يحلم الأب الراحل ببناء بيت كبير عليها ليكون بيت العائلة وذخرا لولديه الذكرين في المستقبل، رحل والد كوثر قبل أن يحقق حلمه تاركا وراءه أرملة وبنتين وولدين وكان من حظ العائلة وجود شخص ذو دخل شهري ثابت ليحل مكان الأب الراحل في إعالة هذه العائلة.
دخلت وسلمت دون النظر في عيني سليم مباشرة فقد كانت كوثر فتاة خجولة وجميلة ذات عينان خضراوين واسعتين وبشرة بيضاء صافية. كانت تحدق في بلاط الأرض وهي توجه الكلام لسليم الذي لم يرى فيها غير ضحية جديدة يمارس عليها حيله النفسية ليوقعها في شباكه ولكن لم يتسنى له ذلك ففور إخبارها بأن الأستاذ محمد غير موجود، غادرت دون استاذان وهنا لاحقها سليم بعينيه متأملا فستانها البني وخمارها الأسود وهما يختفيان بين زحام المارة...
من أرقى ما قرأت ❤️⭐️
👌👌bravo