في صباح يوم الجمعة، قررت كوثر الذهاب لزيارة إحدى صديقاتها، وخلال مشيها بين أزقة الحي الضيقة، سمعت صوت سيدة يناديها: "يا ابنتي، يا صاحبة الخمار الأسود". وفور التفاتها، وجدت والدة سليم تلاحقها، فتوقفت وألقت كلتاهما السلام بتحفظ. وبينما كانت كوثر تشيح بنظرها عن وجه الخالة نجمة جانباً إحراجاً، وجدت الخالة تمسك بيدها قائلة: "لا تخافي يا ابنتي، أنا فقط أريد التحدث معك في موضوع مهم". وهنا افترشت كلتاهما حافة طريق ضيق يقل فيه المارة
بدون مقدمات استرسلت الخالة نجمة في الحديث كأنها تسرد قصة جرت أحداثها بعيدا في الماضي: طبعاً لم يكن سليم إنساناً عادياً منذ صغره، كان عدائياً يضرب كل من يقترب منه. لم يجد أي من لعب الأطفال رغم ذكائه الحاد، حتى الغميضة كان أول من يجده أصدقاؤه. لم يكن يتقن فن الاختباء حينها، وكلما رجع إلى البيت باكياً وبخته أكثر وجعلته يبكي مطولاً. ولسبب ما لا أعرفه، كنت أتلذذ بصوت نحيبه. كان يواصل الصراخ ودموعه تنهمر على خديه حتى يختفي صوته، ثم ينام من التعب. وبعدها أخرج أنا إلى فناء المنزل منتصرة على هذا الطفل المسكين الذي أنجبته إلى هذا العالم بدون موافقة منه. أخرج علبة الدخان المالبورو الحمراء من مخبئها وألتقط ولاعة كنت أستخدمها في المطبخ، وأشعل تلك السيجارة لأستنشق أول نفس وأنفثه عالياً إلى السماء ورأسي شامخ. كنت كلما وبخت أو ضربت ذلك الطفل العاجز، شعرت بالنصر على والده الذي تركنا دون وداع. ذهب إلى إيطاليا ولم يعد، تزوج هناك بسيدة إيطالية وأنجب منها ولدين، ولم يسأل لا عني ولا عن سليم يوماً. أسمع أخباره أحياناً من الجالية هناك. لقد فتح محلاً للحلاقة وكانت زوجته موظفة في أحد البنوك. أما ولداه فقد كبرا ليصبحا عكس ابني أنا في كل شيء. لم يقتصر توبيخي لسليم في طفولته على نعته بالغبي والفاشل فقط، بل كنت أشكك في رجولته طوال الوقت، وبهذا كنت قد صنعت وحشاً...
أذكر كل الأيام التي كان يسأل فيها عن والده، وأذكر أنني كنت أشتم هذا الأخير بأقبح الألفاظ، ولم أدرك يومها تأثير كلماتي ولا أسلوبي على ذلك الطفل الذي كبر ليصبح أكبر متلاعب عرفه الحي. تأتي إلي الكثير من الفتيات في أعمار مختلفة، كان ابني يسرق منهن أشياء، منها المادي والمعنوي. ولا أعرف أين يذهب بمسروقاته. في البداية لم أكن أصدقهن، فكيف لهذا الفتى القصير متوسط الجمال، هزيل البنية، ضعيف الشخصية، قليل المال أن ينجح في حصد هذا الكم الهائل من الغنائم . سكتت قليلاً، ثم أخرجت سيجارة من جيب معطفها الصوفي ومعها قداحة كانت تبدو باهظة الثمن، وأشعلت سيجارتها. التفتت إلي وقالت: "هذه الولاعة هدية من سليم. علمت منذ سنوات أنه كشف أمر تدخيني منذ طفولته، ولكن لم يقل شيئاً، حتى في أحد أيام شبابه وجدته يهديني هذه الولاعة قائلاً: دعكي من ولاعة المطبخ يا ماما... وسكت كلانا". ومن يومها أصبحت أدخن أمام الملأ رغم الانتقادات اللاذعة والتي كانت تغلف معظمها بغلاف النصيحة والخوف على صحتي لأنني أصبحت عجوزاً... قالتها وهي تضحك، وما لبثت حتى رجعت إلى نبرتها الجادة ووجهها الحزين وهي تحكي عما حدث من سليم خلال طفولته. وهنا شعرت بالكثير من الألم، ليس فقط لما حصل معي بل لما حصل لذلك الطفل. لم أستطع حينها الربط بين الشخصين، لم أستوعب أن الطفل المسكين الذي تركه والده وقست عليه أمه، هو نفسه الشخص الذي حطم قلبي وتلاعب بمشاعري. حزنت على سليم الطفل وكرهت سليم الشاب… لم أقوَ على سماع المزيد وأوقفتها قائلة: شكراً يا خالة، هذا يكفي… سمعت يومها قصصاً لفتيات خسرن الكثير... أكثر بكثير مما خسرته أنا، وقررت وقتها أن أطوي هذه الصفحة من كتابي. عفواً لم أطوها، بل مزقتها وقطعت وعداً على نفسي أنني لن أتكلم عن هذا الموضوع مرة ثانية، وأنني سأحاول قدر المستطاع أن أنساه وكأنه لم يكن. ومرت بضع أيام على هذا الحال إلى أن تذكرت جملة قالتها والدة سليم لي ولم أستوعبها وقتها، كما أنني لم أرد سماع المزيد حينها، إلا أن الفضول ينتابني الآن بخصوص أول بنت أحبها والتي لم تكن ضحية له بل كان هو ضحيتها.. يا ترى من تكون؟ ماذا فعلت؟ لماذا لم يذكرها سليم يوماً؟ وسرعان ما قررت قتل الفضول والعودة إلى الحياة الهادئة التي قررت عيشها بعيداً عن سليم وعن قصصه.
كنت أستيقظ كل يوم وأنا ناقمة على نفسي وأتمنى لو أنني لم أعرف سليم قط، تمنيت لو أنني عدت إلى كوثر قبل تلك الكذبة التي عشتها مع شخص تجرد من كل المشاعر والقيم. ثم أرجع وأقول: لا يمكن لي أن أعيش هكذا كارهة لنفسي قبل سليم. لم يكن ما حدث لي معه ربع ما فعله بغيري. هذا اللص الحقير الذي لم تطله أيادي القانون لأنه كان يقوم بجرائمه في وضح النهار على مرأى ومسمع من ضحاياه، بل كانت الضحية تسلمه المسروقات بيديها، أي كانت: قلبها، شرفها، نقودها... والقانون هنا لا يحمي المغفلين وفي قضيتنا هذه كنا جميعًا مغفلات أو بمعنى أدق غافلات. لم تكن لأي منهن الخبرة الحياتية الكافية لتدرك أن ما تظنه حبًا ليس إلا تلاعبًا نفسيًا وما رأته حلمًا بحياة زوجية سعيدة مع رجل رومانسي لا يرى غيرها، لم يكن إلا طعمًا للإيقاع بالفريسة.
كان لصًا متسلسلاً يهوى جمع الجوائز من ضحاياه، وكان يخفيها كلها في غرفته داخل بيت أمه. والعجيب أنه رغم وجود نقود ومصوغات بين تلك الغنائم لم يصرف منها شيئًا لأن الهدف كان التلذذ بسلب الضحايا ما يحبون وليس الحصول على المال. ربما سلبت منه الدنيا وجود الأب وحب الأم، ولكن: هل يبرر هذا تحوله إلى مسخ؟ هل يكمن سر كل هذا الكره للنساء في ترك حبيبته الأولى له؟ تلك التي استمرت علاقته العفيفة بها عدة سنوات ثم تزوجت أول خاطب لها وتركته، وهل أحبها فعلاً؟
بعد مرور أشهر، لاحظ سليم أن كوثر على عكس الأخريات لم تحاول يوماً التواصل معه، وأمه لم تخبره عن زيارتها لها وعن الحديث الذي دار بينهما. وهنا بدأ التفكير يأكل رأسه، فراح يمشي في المكتب ذهاباً ومجيئاً بينما يفرك يديه ببعضهما ويحدث نفسه بصوت عالٍ: هل نسيتني؟ ألم تحبني؟ ألم أكسر قلبها؟ لماذا ليست هنا جاثمة تحت قدمي تترجاني كي أعود كما كنت؟ لماذا لا أسمع رسائل صوتية تدعو عليّ فيها وتتمنى لي الهلاك؟ لماذا لم تبعث بمرسول يتقصى ما حدث؟ أين هي الآن؟ ماذا تفعل؟ وبينما هو على هذا الحال من الجنون، دخلت عليه سيدة ومعها طفل صغير. سلمت بصوت عالٍ قصد إخراجه من حالة الهلع التي انتابته، ثم قالت: ما بك يا ابني؟ هل أنت على ما يرام؟ فرد وهو يشعر بالإحراج: نعم، نعم فقط قضية استعصى عليها حلها. فقالت السيدة: الله يجيب الخير، أنا والدة كوثر، كانت تتابع معكم بخصوص قضية الأرض، ولكنها انشغلت بعملها وتحضير رسالة الماجستير. وهنا عمّ المكان صمت مخيف، مفاجئ، قطعه الطفل الصغير قائلاً: هيا يا أمي بسرعة. وهنا سألت والدة كوثر سليم مباشرة عن القضية، وأخبرها بأن هناك تطورات مهمة يجب عليه مناقشتها مع كوثر لو أمكن. وردت عليه: سأخبرها يا بني. تمنى لها يومًا سعيدًا وغادرت مسرعة مستجيبة لإلحاح ابنها الذي كان يشدها من العباية نحو المخرج.
هنا وقف سليم يرتجف وكأن مجيء والدة كوثر وهو في تلك الحالة كان مقصوداً، ورجع يكلم نفسه ولكن بدون صوت هذه المرة. أخذ يردد: "عمل ورسالة ماجستير، أين سليم من كل هذا أيتها العاهرة؟". لم يقل الكلمة بصوت، ولكن كان لها صدى في المكان، أو على الأقل هكذا أحس صاحبنا. استغرب كثيراً من هذه الكلمة، خصوصاً وأنه لم يشتم بنتاً في حياته ولم يقل تلك الكلمة لأي من سابقاته، حتى أولئك اللاتي ظن فعلاً أنهن كذلك. لكنه لم يجرؤ على نعت أي منهن بالعاهرة حتى في خياله. كان يتعرق ويداه ترتجفان، ولوهلة أحس أنه سيسقط، فأمسك بحافة المكتب ثم استسلم ونزل على ركبتيه وهو يردد بصوت عالٍ: "لماذا يا أمي، لماذا؟".
وهنا ذهبت به الذاكرة إلى تلك الأيام التي كان يُترك فيها يبكي لساعات بينما أمه في فناء المنزل تدخن السيجارة بعد الأخرى وهي تدندن بأحد الأغاني التي لم يفك طلاسم كلماتها إلى يومنا هذا. وهنا استغرب كثيراً تذكره لتلك الأيام. لماذا روحه ربطت بين ألم لا مبالاة كوثر بغيابه ولا مبالاة والدته بألمه؟ كوثر لم تعنِ له شيئاً، بل كانت من أقل ضحاياه أهمية، كانت أبسط من البساطة. لكن الألم الذي سببه تجاهلها جعله يراها أهم ضحية، بل بدأ يشك في كونها ضحية وصار يتساءل: "أمعقول أن أكون أنا ضحيتها وهي في الحقيقة لم تحبني، كانت فقط تريد زوجاً أو ربما خليلاً؟". ثم قال: "لا، لا، لا، مستحيل، تلك الساذجة ليست كذلك".
نهض وهو يشعر بثقل جبال على كتفيه، راح يتخبط كأنه مخمور حتى وصل إلى دورة المياه وغسل وجهه، وهو يذكر نفسه بكل انتصاراته حتى هدأ. ثم قرر الخروج إلى العالم ببزة المفترس اللعوب، ولكن هذه المرة لم يكن يبحث عن ضحية جديدة، بل قرر التأكد من نهاية كوثر. فما فعلته به وبكبريائه لم يحصل معه من قبل.
اتصل برقم كوثر ولكنه كان غير متاح، يبدو أنها غيرت رقمها. حاول التواصل معها على مواقع التواصل الاجتماعي ولكن دون جدوى، لأنها قامت بحظر حسابه حتى لا يصل إليها. وهنا تأفف في غضب قائلاً: "إنها الحرب إذن يا ابنة الكهربائي؟".
كم من التشوهات النفسية يستطيع المرء أن يتحمل قبل التحول إلى مسخ؟
يتبع...
It's soo deep ,bravo
C'est la meilleure partie jusqu'à présent
في انتظار المزيد